الدور هذه المرة على مصر في تحمل الهجوم الإعلامي وهيجان الشوارع عليها. عمداً بدأت المقال بهذه الجملة، ولم أبدأ بالحديث عن التفجع والتألم لضحايا غزة الآن، أولا لأن هذا الترحم شيء طبيعي وشعور إنساني فطري، تجاه ضحايا وأبرياء غزة، خصوصاً من النساء والأطفال والعجزة والمدنيين الذين لا ناقة لهم مع حماس ولا جمل مع فتح. هؤلاء، وهؤلاء تحديداً، هم من يتألم الإنسان حقا لمصابهم في غزة على يد آلة الجيش الإسرائيلي الوحشية.
في غزة، كل قطرة دم غالية، وكل دمعة ألم عزيزة ومؤثرة على قلب أي إنسان سوي، لكن نسأل هنا كيف ولماذا جرى ما جرى؟ ولماذا أصبحت مصر في الدعاية الحربية لعرب ايران ومحورها هي «أم الشرور» وليست أم الدنيا؟ وكأنها هي التي تقصف غزة وليست إسرائيل؟ نسأل حتى لا نؤخذ بضجيج الأبواق وصراخ القنوات الفضائية «الحماسية»، التي يصل الأمر فيها إلى حد دعوة الجيوش العربية النظامية إلى الزحف مباشرة إلى غزة والانقلاب على دولها.. نعم هكذا سمعت طرفاً من الاتصالات على إحدى القنوات العربية الفضائية.
إذا تذكرتم، ففي حرب يوليو (تموز) 2006 بين حزب الله وإسرائيل، بعد مغامرة الحزب الإلهي بخطف جنديين إسرائيليين، الأمر الذي استدعى، كالعادة، رداً وحشياً من إسرائيل، دمر على إثره الجنوب اللبناني وسويت الضاحية بالأرض، وشرد مئات الآلاف وقتل الكثيرون، وانقسم المجتمع اللبناني على حزب الله بشكل واضح وعميق، حينها وصفت السعودية صنيعَ حزبِ اللهِ بالمغامرة غير المحسوبة، وهو وصف صحيح، لأن زعيم الحزب الإلهي نفسه، خرج لاحقاً، وهو يتكلم بنبرة هادئة بعيداً عن الإرعاد والإزباد المعتاد منه، ليقول إنه لو كان يعلم ما سيجري لمَا أقدم على تلك المغامرة، حينها انطلقت نفس الآلة الإعلامية التي تشتغل الآن. انطلقت ضد السعودية واصفة اياها بأبشع الاوصاف ، ناعتة اياها بالخيانة والعمالة، بل وصل الامر في إحدى لحظات الحماس بالرئيس بشار الاسد الى ان يصف العرب الذين لم يصفقوا لحزب الله بأنصاف الرجال، هذا قبل أن يعلن عن تفاوضه مع إسرائيل، وهو ما كان يجري أصلا تحت الطاولة من قبل. ولا ندري كيف سيصف أنصار حزب الله وحماس ومن يعجب بهما الموقف السوري حالياً..
يبدو أن الهجوم الحالي على مصر يعد منذ فترة ليست بالقليلة، ففي منتصف هذا العام 2008، اندلعت أزمة سياسية بين مصر وإيران على خلفية فيلم دعائي ضد مصر بعنوان «إعدام الفرعون» عن الرئيس الراحل أنور السادات، لكن تم تطويق الأمر حينها، ثم سعت حماس وبتشجيع سوري ـ إيراني إلى إفشال مساعي الحوار الفلسطيني مع فتح برعاية مصر. وسجل ذلك الوزير ابو الغيط على من سماهم أدوات فلسطينية بيد إيران. وفجأة انطلقت مجموعة من المظاهرات المرتبة ضد سفارات مصر في طهران ودمشق وبيروت، لوضع مصر تحت الحصار الإعلامي والابتزاز العاطفي، من أجل فتح معابرها مع حماس بدون قيد أو شرط، لأنه لا مخرجَ لحماس في غزة إلى العالم إلا عبر المنافذ المصرية، فبقية المنافذ تفضي إلى إسرائيل. مصر الدولة أدركت اللعبة، وهي التي كان بعض نخبها ومثقفيها يعتقدون سابقاً أن السعوديين يبالغون في رؤية الخطر الإيراني. حماس جربت ابتزاز مصر أكثر من مرة، تارة عبر الإحراج من خلال أزمة حجاجها وحجاج فتح في موسم الحج الأخير، وتارة عبر التذرع بالحالات الإنسانية. ومصر بدورها كانت متوازنة في ذلك أو في الأقل تحاول ذلك من خلال التوفيق بين سياستها تجاه حماس وواجبها في مساعدة سكان غزة العاديين. مصر ترفض الاعتراف بسلطة الأمر الواقع لحماس في غزة، لانها تعتبر حماس امتدادا لإيران وعمقا للإخوان لديها. وترى أن الشرعية هي في السلطة الوطنية برام الله، وهو ما قرره وزراء الخارجية العرب أيضا، سياسة صعبة ودقيقة، ولكن هذا هو الحال، وربما تصيب مصر وربما تخطئ.
غزة تعتبر باستمرار جزءاً من الأمن القومي الحيوي لمصر، ولا يمكن لها أن تتركه لحال سبيله، فما يحدث في غزة يؤثر دوماً في مصر، لكن ايران من خلال حماس تريد من مصر تسليم القطاع وفتح حدودها بدون قيد أو شرط لشيعتها في حماس. ووصل الأمر مع سيد الحزب الإلهي في خطبته الأخيرة التي حرض فيها جيش مصر على التمرد على السلطة، إلى أن يطلب من مصر السماح بعبور كل شيء عبر الحدود حتى السلاح إلى حماس، وإلا فهم خونة وشركاء في الجريمة!
رؤية ايران ومعها جماعات الإخوان، التي تقود الآن حملة التحريض في الشارع العربي، ورحب مرشدها العام في مصر بالغزو الإيراني الثوري، في مواجهة مصر، تقوم على بعض التصورات الصحيحة للشارع العربي، فهم يعتقدون انه من السهل استثارة طاقة الغضب لدى المواطن العربي من خلال إحراج مصر والسعودية والأردن (بالمناسبة: هي الدول المقصودة دوماً إذا قيل الآن: أين العالم العربي؟ وليست سوريا مثلا!) وإذا ما تم استثارة الشارع العربي تحت عنوان نصرة فلسطين ومحاربة الصهاينة، فيمكن تصريف طاقة الغضب هذه الى مسارات اخرى قد تبدو بعيدة عن صلب الموضوع، أي أن المسألة هي في تخليق طاقة غضب موجهة، ولا يوجد افضل من الصاعق الفلسطيني لاستثارة بارود الشارع، ومن ثم قيادة الغضب باتجاه تحريك نواعير المصالح الخاصة بإيران ومحورها العربي، المتمثلة في إرغام مصر على ترك حماس تتحرك بحريتها في غزة وواجب الاعتراف بها، أو في الأقل التعامل معها بشكل واقعي قسري، هذا ما يفسر التركيز على مصر حالياً.
أتساءل: لماذا لم يتم التظاهر أمام السفارات الأردنية والسعودية في إيران وسوريا ولبنان؟ هل لأن المقصود في هذه الجولة هو ضرب مصر وإخراجها من معسكر إلى معسكر، هل هذا ما يفسِّر النبرة العدائية الاستعلائية التي تحدث بها صاحب الحزب الإلهي الأصفر في بيروت، وهو يلقي على مصر دروساً في المقاومة والكرامة.
لقد صدق حسن نصر الله حينما قال أخيرا: «الموقف المصري هو حجر الزاوية»، وهو يريد، ومعه وليه الفقيه في طهران الذي حرض على التظاهر ضد الدول العربية في كل العالم العربي. يريدون إرهاب مصر وجرها إلى المنطق الإيراني ـ السوري، الذي هو بدوره عابر ومصلحي ومرهون بتغير الظروف مع أمريكا، لكن ما فاتهم أن مصر قد اختارت، بعد سلسلة حروب، الخيار السلمي منذ كامب ديفيد، وخرجت من منطق الحروب، رغم ضجيج الإخوان المسلمين في مصر ومعهم بقايا اليسار إضافة للناصريين. مصر لن ترغم على خوض حرب مع إسرائيل بالنيابة عن إيران الهادئة في أرضها او بالنيابة عن سوريا التي لم ينطلق من جولانها ولو عصفور واحد يعكر صفو الهدوء على الحدود الإسرائيلية.
ستستمر حملة التخوين والابتزاز الغوغائي لمصر بضعة أيام أو أسابيع إلى أن يمل الشارع المهيج أو يرى مطلقو هذه الحملات أنها قد استنفدت أغراضها، وهي أغراض ليست بالنقاء الذي يتصوره الهاتفون والغاضبون الذين ينطلق كثير منهم في العالم العربي من مشاعر صادقة وغير مشكوك فيها تعاطفاً مع المأساة الانسانية في غزة.
أيها السادة: إيران تحارب بدماء الفلسطينيين واللبنانيين، وهي بعيدة عن لهب هذه المعارك، او هي تفتعل هذه المعارك لإبقاء اللهب بعيدا عنها، ومثلها إلى حد ما سوريا، ولكن ألا يقف احد ويفكر، ما الذي سينتج عن هذا الصراخ والهياج كله؟ هل هناك غاية معقولة وواقعية وراء هذه الحفلة المحزنة؟
حماس لا تملك القدرة على إجبار إسرائيل على شيء، فضلا عن إزالتها، مثلما هو حزب الله، رغم كل بهرجته عن أوهام النصر المؤسطر، فلماذا المغالطة، التي يدفع ثمنها عجائز وأطفال وأبرياء؟
مرى أخرى، جيش إسرائيل همجي ووحشي ولا إنساني، لكن مَنْ الذي استدرج هذا الدب، وعن عمد، إلى الكرم الهزيل الذي لا ناطور له؟ ولماذا استدرجه بكل تقصد، رغم علمه انه لا مقارنة البتة بين مليشيا وجيش كامل العدة والعدد من أقوى جيوش العالم.
هل إيقاع هذه المجزرة والمواجهة كان متعمدا من اجل إجبار مصر على القبول بما لم تكن تقبله قبل سيلان الدماء في غزة ؟ ربما، وربما من هنا نفهم ان حماس ترفض مرور الجرحى والمرضى إلا وهي على جثثهم.
ربما لم نشاهد مستوى من الابتزاز العاطفي والاختباء خلف الدماء والجراحات والمقدسات مثلما تفعله حماس حاليا، على إيقاع حرب إعلامية منظمة، ومبيتة بليل، ضد مصر، ومصر فقط هذه المرة.
لكم الله أيها الأبرياء في غزة.
منقول عن مقال اعجبنى فى جريدة الشرق الاوسط سلم ايد اللى كتبه